السؤال :
أيهما أفضل [الفقير الصابر، أو الغني الشاكر]؟
قد كثر تنازع الناس: أيهما أفضل [الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعر
فة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم.
وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [التمام لكتاب الروايتين والوجهين] لأبيه فيها عن أحمد روايتين:
إحداهما: أن الفقير الصابر أفضل.
وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو .
والثانية: أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة.
و[القول الأول] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و[القول الثاني] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [أبو العباس بن عطاء: هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن: يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال: كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه: إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذي القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ].
وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعاً، وهو غلط .
وفي المسألة [قول ثالث] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقاً، ولا هذا أفضل من هذا مطلقاً بل أفضلهما أتقاهما. كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات: 13]، وقال عمر بن الخطاب: الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [ النساء: 135] وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال.
وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام.
والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام.
وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [شرح السنة] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى: "وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السـقم، ولو أصححته لأفسـده ذلك، إني أدبـر عبادى، إني بهم خبير بصير".
وفي هذا المعنى ما يروى: "إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب"، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا.
ذكره أحمد في الزهد.
فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: "نعم المال الصالح للرجل الصالح".
وكما أن الأقوال في المسألة [ثلاثة] فالناس [ثلاثة أصناف]: غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنياً: كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم.
ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.
وفيهم من كان فقيراً: كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم.
ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، ...