ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من
أخبارهم وصفة السد ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد هم
من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين: من طريق
الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم [ ! فيقول: لبيك وسعديك، والخبر في
يديك ]: قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول:
من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فحينئذ يشيب
الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب
الله شديد ".
[ قال: فاشتد ذلك عليهم ] قالوا يارسول الله أينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " ابشروا فإن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألفا "
(1) وفي رواية فقال: " ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شئ إلا كثرتاه
".
أي غلبتاه كثرة وهذا يدل على كثرتهم وإنهم أضعاف الناس مرارا عديدة.
ثم هم من ذرية نوح لان الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على
أهل الارض بقوله: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) وقال تعالى:
(فأنجيناه وأصحاب السفينة) وقال: (وجعلنا ذريته هم الباقين) وتقدم في
الحديث المروي (2) في المسند والسنن أن نوحا ولد له ثلاثة وهم سام وحام
ويافث فسام أبو العرب وحام أبو السودان ويافث أبو الترك فيأجوج ومأجوج
طائفة من الترك وهم مغل المغول وهم أشد بأسا وأكثر
فسادا من هؤلاء ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم.
وقد قيل إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج
ومأجوج إلى ما وراءه فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم فتركوا من
ورائه.
فلهذا قيل لهم الترك.
ومن زعم (3) أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلطت بتراب
فخلقوا من ذلك وأنهم ليسوا من حواء فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي
في شرح مسلم وغيره وضعفوه.
وهو جدير بذلك إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس
اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.
وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا.
فمنهم من هو كالنخلة السحوق.
ومنهم من هو غاية في القصر.
ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالاخرى فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم
بالغيب بغير برهان.
والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا "
(4) ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وهذا فيصل في هذا الباب وغيره.
وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا (5) فإن صح في خبر قلنا
به وإلا فلا نرده إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد إليه
__________
(1) أخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان 96 باب يقول الله لآدم 379 / 222 ص 1 /
201 والبخاري حديث رقم: 1584.
وما بين معكوفين زيادة من مسلم.
وبعث النار: البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها، ومعناه ميز أهل النار
من غيرهم.
(2) رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولد لنوح سام وحام
ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج
والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان ".
تقدم تخريجه.
(3) قاله كعب الاحبار.
وفي الخبر أن آدم احتلم ; وفي هذا نظر لان الانبياء لا يحتلمون قاله
القرطبي.
(4) أخرجه مسلم في 51 / 11 / 28 / 2841 وأحمد في مسنده ج 2 / 315.
(5) رواه الهيثمي في الزوائد عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال رواه الطبراني في الاوسط وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف.
[ * ]
(2/130)
والله أعلم.
بل قد ورد حديث مصرح بذلك إن صح قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن
العباس الاصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود
الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر عن عبد
الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج من ولد
آدم ولو أرسلوا لافسدوا على الناس معائشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من
ذريته ألفا فصاعدا.
وإن من ورائهم ثلاث أمم (تأويل وتاريس ومنسك) " (1).
وهو حديث غريب جدا وإسناده ضعيف.
وفيه نكارة شديدة.
وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذهب إليهم ليلة الاسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته وأنه
دعا تلك الامم التي هناك (تاريس وتاويل ومنسك) فأجابوه فهو حديث موضوع
اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع
الحديث والله أعلم.
فإن قيل فكيف دل الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة أنهم
في النار ولم يبعث إليهم رسل.
وقد قال الله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فالجواب أنهم لا
يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والاعذار إليهم كما قال تعالى: (وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا) [ الاسراء: 15 ] فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث
محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم فقد قامت على أولئك الحجة وإن
لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة.
ومن لم تبلغه الدعوة وقد دل الحديث المروي من طرق (2) عن جماعة من الصحابة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من كان كذلك يمتحن في عرصات القيامة
فمن أجاب الداعي دخل الجنة ومن أبى دخل النار " وقد أوردنا الحديث بطرقه
وألفاظه وكلام الائمة عليه عند قوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقد
حكاه الشيخ أبو الحسن الاشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا
يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الاخبار عنهم بأنهم من أهل النار لان الله يطلع
رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب وقد اطلعه على أن هؤلاء
من أهل الشقاء وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له فهم لا يجيبون
الداعي إلى يوم القيامة فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا
لو بلغهم فيها لان في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا
فإيقاع الايمان هناك لما يشاهد من
الاهوال أولى وأحرى منه في الدنيا والله أعلم.
كما قال تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا
وسمعنا فارجعنا فعمل صالحا إنا موقنون) [ السجدة: 12 ] وقال تعالى: (أسمع
بهم وأبصر يوم يأتوننا) [ مريم: 38 ].
وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعاهم ليلة
الاسراء فلم يجيبوا " فإنه حديث منكر بل موضوع وضعه عمرو بن الصبح.
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 / 6 وقال رواه الطبراني في الكبير
والاوسط ورجاله ثقات.
(2) رواه ابن كثير في تفسير سورة الاسراء - الآية 15 - ج 3 / 48 وما بعدها.
(دار احياء التراث).
[ * ]
(2/131)
وأما السد فقد تقدم أن ذا
القرنين بناه من الحديد والنحاس وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال فلا
يعرف على وجه الارض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.
قال البخاري: وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد قال: " وكيف
رأيته ؟ " قال مثل البرد المحبر (1) فقال: " رأيته هكذا ".
ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم ولم أره مسندا من وجه متصل أرتضيه غير أن
ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد،
عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج
قال: " انعته لي " قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: " قد
رأيته ".
وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته وكتب لهم كتبا إلى الملوك
يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد فيكشفوا عن خبره وينظروا كيف
بناه ذو القرنين على أي صفة ؟ فلما رجعوا أخبروا عن صفته وأن فيه بابا
عظيما وعليه أقفال وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا وأن بقية اللبن الحديد
والآلات في برج هناك وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة
لتلك البلاد ومحلته في شرقي الارض في جهة الشمال في زاوية الارض الشرقية
الشمالية، ويقال: إن بلادهم متسعة جدا وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من
حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا
الذي خلقهم.
فإن قيل فما الجمع بين قوله تعالى: (فما
اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) [ الكهف: 97 ] وبين الحديث الذي
رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استيقظ
رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمرا وجهه وهو يقول: " لا إله إلا
الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه "
(2) وحلق تسعين قلت: يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم إذا كثر
الخبث (3).
وأخرجاه في الصحيحين: من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج
مثل هذا وعقد تسعين " (4).
فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن
وإن هذا استعارة محضة وضرب مثل فلا إشكال.
وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا
إشكال أيضا لان قوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له
__________
(1) البرد المحبر: الثوب المنمق.
(2) أخرجه مسلم في 52 كتاب الفتن - (1) باب 2 / 2880 ص 4 / 2207 - 2208
والبخاري حديث رقم: 1582.
(3) الخبث: فسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنى خاصة وقيل
أولاد الزنى والظاهر أنه المعاصي مطلقا، ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد
يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون.
(4) الحديث 3 / 2881 والبخاري رقم 1583 راجع الحاشية رقم (2).
[ * ]
(2/132)
نقبا) أي في ذلك الزمان لان
هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قردا
وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا حتى يتم الاجل، وينقضي الامر المقدور
فيخرجون كما قال الله تعالى: (وهم من كل حدب ينسلون) [ الانبياء: 96 ] ولكن
الحديث الآخر أشكل من هذا وهو ما رواه الامام أحمد في مسنده قائلا: حدثنا
روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم
حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا
فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على
الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون
غدا إن شاء الله ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه، فيحفرونه
ويخرجون على الناس فيستقون (1) المياه، وتتحصن الناس في حصونهم فيرمون
بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون قهرنا أهل الارض
وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا (2) في أقفائهم فيقتلهم بها "
(3).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده إن دواب الارض
لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم " ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى عن
سفيان عن قتادة به، وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد عن قتادة إلا أنه قال
حديث أبو رافع.
ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة به.
ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس
من ورائه لرقته فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا وإنما هو مأخوذ عن كعب
الاحبار كما قاله بعضهم فقد استرحنا من المؤنة وإن كان محفوظا فيكون محمولا
على أن صنيعهم (4) هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو
المروي عن كعب الاحبار أو يكون المراد بقوله: (وما استطاعوا له نقبا) أي
نافذا منه فلا ينفى أن يلحسوه ولا ينفذوه والله أعلم.
وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في الصحيحين عن أبي هريرة فتح اليوم
من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين أي فتح فتحا نافذا فيه والله أعلم.
_________
(1) في ابن ماجه: ينشفون الماء: أي ينزحونه.
(2) النغف بالتحريك: دود يكون في أنوف الابل والغنم واحدتها: نغفة.
(3) مسند أحمد ج 2 / 510 والترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن 19 باب حديث
3153 وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: ضيعهم وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
البداية والنهاية لابن كثير